عدن.. استثمار الفوضى


لا تنتهي الحرب بانتصار طرف على آخر، بل قد يدخل المجتمع مرحلة رمادية، تأخذ فيها الحرب شكلاً أعنف، غير خاضع للضبط أو القياس، حرباً يخوضها المجتمع برمته بشعار “الكل مع الكل.. والكل ضد الكل”، محوّلة كل المواطنين إلى فرائس محتملة لها.
 
تستأنف الحرب على المجتمع من تخليق منظومة فوضى بسياقات سياسية وأمنية واجتماعية متداخلة، توظفها أطراف الحرب السابقة، لتأكيد فاعليتها في الواقع الميداني، إضافة إلى دخول لاعبين جدد، لا ينضوون تحت مكون سياسي محدد، بحيث تمكن إدانتهم، وتستطيع هذه القوى التي تتكاثر كل يوم تخليق الفوضى، واستثمارها لفرض وجودها، من خلال أعمال عنفية متعددة، تطاول الجميع بلا استثناء.
 
في اليمن، التي ما زالت معظم مدنها تعيش حرباً مستمرة، تبدو مدينة عدن نموذجاً مرعباً للفوضى، فمنذ تحرير المدينة في يوليو/تموز الماضي، تعيش واقعاً معقداً مثقلاً بتداعيات كارثية للفوضى الممنهجة، التي تطاول المواطنين كل يوم.
 
تشترك قوى وأطراف كثيرة في تخليق الفوضى في المدينة، مثل مجاميع تابعة لعلي عبدالله صالح والحوثي، وقوى مليشياوية قمعت في فترات سابقة، ووجدت في غياب سلطة ضبطية متنفساً لها لتحقيق أهدافها وإرهاب الآخرين، وأطراف سياسية محلية، لا يمكنها النشاط إلا في ظل الحرب أو الفوضى، وجماعات جهادية مسلحة، كداعش والقاعدة، يتزايد انتشارها ونفوذها كل يوم؛ مستفيدةً من تنافسية قوى الفوضى الأخرى، ومن هشاشة السلطة الشرعية، ممثلة بالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وحكومته، تشكل هذه القوى، وفق مستويات متعددة، نمط الحياة اليومية منذ تحرير المدينة.
 
بتعدد المضامين السياسية التي تسعى القوى إلى تحقيقها على المدى القريب، أو المستقبلي، تتعدد أشكال الفوضى في عدن، وحتى مع اختلاف وسائلها العنفية، تتفق جميعها في تضييق الخناق على حدود السلطة الشرعية، وتعطيل مظاهرها في أكثر من منطقة، وفي استهدافها حياة المواطنين.
 
نجحت هذه القوى في تخليق سلطاتها الخاصة، المستمدة من سلطة الرعب، فلا يمر يوم من دون اغتيالات سياسية لشخصيات مدنية وعسكرية ورجال دين، وقتل مدنيين وإعدامات خارج القانون، وأعمال ثأرية في حق المواطنين، وبسط على ملكيات خاصة، وأراض تابعة للدولة، وحرائق ينفذها مجهولون، إضافة إلى عمليات إرهابية، ينفذها تنظيما القاعدة وداعش، تحت تهم مختلفة، كالعمالة والخلايا النائمة.
 
بتحليل المضامين السياسية لقوى الفوضى الحاكمة في عدن اليوم، نجدها إما إعلاناً سياسياً وجماهيرياً، يسعى إلى التمدد والسيطرة، كما هو نهج تنظيم داعش وتنظيم القاعدة في عملياتهما ضد مقرّات السلطة، أو رسائل موجهة من صالح والحوثيين لسلطة هادي، لتأكيد حضورهما في عدن، كما يتهمهما بعضهم، مؤكدين ذلك بالاغتيالات، التي طاولت قيادات في المقاومة الجنوبية، أو أن تكون هذه الأعمال تصفيات سياسية داخل بنية المقاومة نفسها، كما قرأ بعضهم واقعة اغتيال القيادي السلفي، الشيخ راوي العريقي، أو لإرهاب المجاميع الشمالية في عدن، كما تؤكد حوادث متفرقة، تطاول مدنيين وعمالاً ينحدرون من المحافظات الشمالية، وكان آخرها العثور على جثة الصيدلي، بسام البريهي، مقتولاً ومقيداً ومرمياً في أحد الشوارع الجانبية.
 
مستفيدة من غياب مظاهر السلطة في مناطق مختلفة من مدينة عدن، وتحولها إلى سوقٍ مفتوحة لبيع السلاح، نشطت القوى المنفلتة في إنتاج الفوضى وإرهاب المواطنين، بينما تكتفي السلطة الشرعية في تعاطيها مع الفوضى برمزية وجودها الشكلي في قصر المعاشيق، من دون أن تنجح في تثبيت مظاهر سلطة الدولة خارج حدود القصر.
 
تعتبر عملية اغتيال محافظ عدن، جعفر محمد سعد، في ديسمبر/ كانون الأول الماضى، تتويجاً لحالة الفوضى التي وصلت إليها المدينة، وطاولت الرجل الثاني في المدينة، إلا أن ذلك لم يكن سبباً كافياً لهادي لوضع استراتيجية واضحة لمواجهة تحديات ما بعد تحرير المدينة، عبر تأمينها وإرساء قوانين ناظمة للمواطنين، تبدأ بحملة لنزع السلاح وتجفيف منابعه وحصر ملكيته في الدولة، وتحجيم القوى المليشياوية، ومنع تسلل داعش والقاعدة في مناطق عدن.
 
يبدو غريباً ومستفزاً الاسترخاء الغريب الذي تبديه سلطة هادي حيال تفاقم الانفلات الأمني في عدن، والاكتفاء بنسب كل مظاهر الفوضى إلى قوى تابعة لصالح والحوثيين، أو إلى خلايا نائمة، متجاهلاً تهديد تنظيمي داعش والقاعدة، اللذين يسيطران على عدد من المدن، ويبسطان سلطتهما حتى على مناطق داخل مدينة عدن نفسها.
 


يضعنا الأداء السلبي لسلطة هادي أمام حقيقتين مريرتين، الأولى عجز السلطة عن بسط نفسها حتى على مدينة عدن. والثانية أن هادي مستفيد من هذه الفوضى، ويعمد إلى استثمار حالة الخوف لدى المواطنين لجعلهم يلتفون حول سلطته على هشاشتها، ويتيح له كذلك قمع أي جموح سياسي .