المرتعشون لا يصنعون تاريخًا

لقد تعرض اليمن للخصي ، على مدى ثلاثة وثلاثين سنة من حُكم صالح ، كان الجيل الناشيء يعيش جاهلًا ماضيه وثورته العظيمة ، حاصرنا "صالح" بصورته ، حتى ظننا أنه الرجل الذي لا بديل له ، وقد كُنّا نتساءل فعلًا : من لها غيره ؟ ، ومن لنا سواه ؟

- شخصيًا .. عند موقفي من احتجاجات الربيع العربي ، لم أكن أرفض التغيير - ولا أقولها مهادنة - بل رفضت اسقاط النظام وكسر الدولة وإن كانت شبحًا سيئًا ، وبعد رحيل "صالح" دافعت عن قيمته كـ"رئيس سابق" ، كُنت أتمنى بقاءه مُحصنًا من الأذى ، ليس لأجله كشخص ، بل لقيمة الرئيس السابق كواقع ، ولكي نمنح "هادي" من بعده المكانة نفسها ، وللرئيس الذي سيخلف هادي أيضًا بعد خروجه عن الرئاسة .

- إحدى العيوب التي رافقت خروج "صالح" إستمرار الحُكام الجُدد في أذيته لفظيًا ومعنويًا ، حوّلته وحشًا فوق طاقته الشريرة الكامنة ، وأعطت له الضوء الكامل لتسيير عملية التمرد بدعوى الدفاع عن بقاءه وخلوده !.

- كان الرجل قلقًا من فكرة تدوين التاريخ بالطريقة التي تجعله مجرمًا علنيًا ، وتمحو ما كان يحسبها "انجازاته" ، وقد رأيتها في عينيه وهو يشكو بمرارة أوصاف الإعلام الحكومي الجارحة ! ، كانت لعنات التاريخ التي نَصُبّها على عائلة "حميد الدين" ماثلة في ذكراه ، وذلك السبب الجوهري في خصومته الدامية مع "الإصلاح" تحديدًا ، فمثله يعرف قدراتهم الدعائية الهائلة في التدمير الشامل لسمعة عدوهم !، وقد قرر مواجهتهم بعنف مستعينا بـ"الحوثيين" ، الذين منحوه صكًا وثيقًا بإقرار مكانته وعدم المساس بها ، حتى انقلبوا عليه في إعلانهم الدستوري ، غير أنه لم يكن قادرًا على التراجع فقد بلغ حد السيف عُنقه .. ولولا "عاصفة الحزم" لكان "صالح" قتيلًا منذ زمن !

- لقد استفاد منها رغم ما يُظهِره في معاداتها ، فتلك خطوته التي تعزز مكانته داخليًا لدى قبائل أغوتها الشائعات بما بات يوصف اصطلاحًا لدى مهرجي الأزمات بـ"العدوان" ، وها هو يسوّق نفسه لدى قبائل "آزال" تحديدًا بإعتباره الرجل الذي لا يهرب ، وتلك غواية تروق لرجل الريف العنيد في بأسه وإصراره، مستفيدًا من قذارة الحوثيين وعدم استقرار "عدن" لتأكيد تاريخه كحاكم سابق كان جيدًا وقويًا مقارنة بمسؤولي هذه اللحظة من كل الأطراف .

- مرة أخرى .. لقد خصانا "صالح" ، فلم تعد اليمن تُنجب شيئًا ، وهو الوحيد الذي يبتسم رغم مرارتنا الإنسانية ، مُقبِلًا بربطة عنقه الثمينة للوقوف على أطلال الحرب ، قائلًا " ألم أقل لكم : مالها إلا علي" ! ، سخرية بالغة تنفذ فوق الوجوه التي لا تعرف فِعل شيء سوى البكاء على أطلال "الحمدي" ، وكأنها تستجدي روحه المدفونة تحت أطنان الأتربة ، فيقطع "صالح" الصمت الحزين بالإشارة إلى نجله .. صائحًا (أنا مسيحكم ، ومبشرًا برئيس يأتي من بعدي إسمه أحمد) .. وحين يضج صوته في الفراغ ، فراغ السياسة ، والحرب ، والحسم .. فراغ التنمية والعمل والمعقول .. يستحضر اليمني هدوءه القديم ويهز رأسه حائرًا .. متمتمًا بصوت خفيض : اللعنة !