أبطالٌ حقيقيّون

أدري أنني آتي متأخراً. دوماً ما يحدث ذلك. كما أدري أيضاً أنّ وقتكم لا يتسع لتسمعوا منّي أيّما تبريرات لذلك. المهم، يجب أن أدلي بدلوي عمّا حدث في صنعاء قبل ثلاثة أيّام. أجل بالضبط، حادثة التعرّض للمتظاهرات بالضرب والاعتقال من قبل الزينبيّات وأفراد الميليشيا الحوثيّة.

سأتحدث هنا عن ثلاثة أشياء: ردّة الفعل الحوثيّة، وردّة فعل فصيل من مثقفينا، وكذلك عن ظاهرة خروج النساء للتظاهر أكثر من الرجال.

ما يدهشني، فيما يتعلّق بطريقة تعاطي الحوثيين مع مثل هذه النشاطات، أن ثمة من لا يزال يستغربها! وكأن هذا الفعل الممل والمكرور، ليس سوى نتوء مفاجئ لا ينسجم والخلفيّة الحركيّة للميليشيا وطريقة تفاعلها مع هذه التحركات والانتفاضات الصغيرة. وكأنّ صاحبنا المدهوش كان نائماً طوال المسيرة الحوثية من صعدة إلى عدن، وصحا فقط على مشهد الزينبيات المدججات بالخناجر والفؤوس يتعاملن مع أجساد المتظاهرات وعلى الأطقم الحوثيّة تعتقل بعضهن وتنقلهن لجهات مجهولة! حسناً، لن يمضي وقت طويل حتى يستغرب صاحبنا من استغرابه السابق!

أمّا مثقفونا فقد تعاطوا مع المسألة على وجوه: الأكثر منهم شجبوا ونددوا، وقالوا بأنّ هذه الممارسات ليست مستغربة من ميليشيا ذات سجل قيميّ رديء ومنحلّ، وأنّ صنعاء لن تصمت لوقت طويل. وهذا ما كنت سأكتبه أيضاً، لو كانت شبكة النت حينها متاحة.

غير أنّ الفصيل المثقف الّذي أودّ التركيز عليه هنا، هو ذلك المتفلسف المثاليّ، الذي يتكلم دوماً من الأعلى، من السماء، كإله! يندرج في ذلك كلّ من اختصر القضيّة بالإيجاز التالي: ليس من ثورة للجياع. من لم يثر دفاعاً عن كرامته، لن يثور للقمة عيشه!

هؤلاء قارئون دؤوبون، قرأوا الكثير من الكتب. لكنّهم لم يقرأوا، بالتزامن مع ذلك، ذواتهم وواقعهم. يجردون محفوظاتهم من واقع مجتمعهم وتداخلاته، ويحكمون سريعاً على كلّ شيء، وغالباً ما تكتسي أحكامهم أردية التشاؤم، الأحكام التي يطلقونها بفوقيّة مقيتة ومستفزّة. وهؤلاء، سينضجون رغماً عنهم ذات فترة ما، حينما يجبرون على تنحية الكتب قليلاً والانغماس في قراءة الناس والأحداث. بمعنى أنّهم سيتعرفون زوربا ذات يوم، وسيصوّب مجهوداتهم للصالح العام.

غلبة النشاط النسائيّ في التظاهر بصنعاء على الرجاليّ، يرجع لكون اليمنيّ ما يزال، لطيبته المعهودة، يعوّل كثيراً على رصيد قيميٍّ متخيّلٍ للميليشيا الانقلابيّة. فهو يرى أنّ لديها، هذه الميليشيا، من المروءة ما يفرملها عن البطش بالمرأة فيما لو اعترضت، البطش الذي لا بدّ وأن يكون نصيب أيّ رجل يخرج معترضاً بأيّة صيغة كانت. هذا الأمر الذي لا أظنّه سيتكرر كثيراً بعد الآن، حيث ما انتهجته الميليشيا من العنف ضد المشاركات إضافة لما تبع ذلك من ضخ إعلاميّ مشوّه ومخيف، سيعمل على كبح أيّ نشاط نسائيّ قادم.

ختاماً، يجب القول بأنّ أيّ اعتراض على سياسات الميليشيا في المناطق الخاضعة لسلطتها، من قبَل أيّ شخص يجب أن يلقى حقه من الاحتفاء، على اعتبار المعترض هناك لا يقلّ شجاعة عن الواقفين بالصفوف الأوائل بجبهات القتال، حيث يقتسم معهم النسبة الأعلى من احتماليّة الموت في سبيل تعرية الميليشيا ودحرها. انطلاقاً من ذلك، يقتضي الإنصاف اعتبار كلّ من تظاهر في صنعاء بطلاً، بطلاً حقيقياً.