آخر حروب العباسيين!

هناك أخبار جيدة وأخرى سيئة قادمة من المحافظة اليمنية الأكبر "تعز". 
الخبر الجيد:
تمكنت القوات الأمنية، هذا النهار، من إنهاء الوجود العسكري لتنظيم أبو العباس بعد السيطرة على معقل "الدولة العباسية" في المدينة القديمة. من الأخبار الجيدة أيضاً أن الساعات الأخيرة أخرجت على هيئة "تسليم واستلام" وانتشار أمني، مع العزوف عن أي مظهر احتفالي. من المبكر القول إن الدولة العباسية صارت جزءاً من الماضي، بيد أنه من المؤكد أن مثل تلك الجزر/ الدول التي تعيش تحت الأرض ليست من عوامل الاستقرار. وقد سبق أن قال الجنرال الحمادي، في أكثر من إحاطة قدمها للرئاسة، إن تنظيم أبو العباس لا يمتثل لقيادته رغم تبعيته المفترضة للواء ٣٥.

لنتحدث عن القصة في فصلها الأخير:
قام مسلح يدعى يوسف الحياني باغتيال ضابط في الجيش. وبمصادفة مريبة حدَث أن الضابط المغدور ينتمي وظيفياً إلى اللواء ٢٢ و"قبلياً" إلى: مخلاف. هذا التعقيد المركّب دفع المحافظ، الذي لم يمض على وصوله إلى المدينة سوى وقت قصير، إلى اتخاذ إجراء سريع لمنع أي تعقيد إضافي. أصدر أوامره بسرعة القبض على القتلة. سرعان ما اكتشفت القوات الأمنية أن القاتل لجأ إلى أبو العباس في المدينة القديمة، وهي أشهر جزيرة لغسل الجرائم. مع توغل القوات الأمنية في المدينة القديمة اشتعلت المواجهات بين الأجهزة الأمنية بقيادة الرجلين: مدير الأمن الأكحلي وقائد المحور الصبري، المحسوبين على حزب الإصلاح، وميليشيات شعبية تتبع الشيخ السلفي أبو العباس.

طالبت أحزاب وجهات عديدة بإيقاف المواجهات، وأصدر محافظ تعز أوامره للحملة الأمنية بالانسحاب، مهدداً بالاستقالة أو إقالة الرجلين. كان القائدان، سمير الصبري ومنصور الأكحلي، قد اتخذا قراراً بإنهاء وجود الجماعة السلفية المسلحة من المدينة. رفض القائدان الانصياع لكل أوامر الانسحاب، وحلقت مقاتلات إماراتية فوق سماء تعز منذرة بالتدخل دفاعاً عن أبو العباس المتواجد تحت الرعاية الإماراتية في عدن. برر الرجلان، قائد المحور وقائد الأمن، استمرارهما في المعركة بالقول إن القوة العسكرية وجدت نفسها تتعرض لهجوم مضاد وأنها كانت مضطرة للمواجهة حتى تتخلق ظروف أفضل للانسحاب. هذه المرافعة رد عليها المحافظ برسالة رسمية قال فيها إن "أبو العباس" التزم بتسليم القتلة، وأن على القادة إيقاف الحملة فوراً. رسالة المحافظ نقلت اعترافاً مباشرا من "أبو العباس" عن مسؤولية جماعته عن عملية الاغتيال، أو على الأقل: توفير الحماية لعصابات الاغتيال. توقفت المعركة مؤقتاً لتعاود الاشتعال، وآلت في نهاية المطاف إلى إنهاء الوجود العسكري لتنظيم أبو العباس من مدينة تعز.

لا أملك بيانات، أي نوع من البيانات، عن حجم تواجد حزب الإصلاح في الجهازين العسكري والأمني في محافظة تعز. لنأخذ القصة من فصلها الأول: اتخذ حزب الإصلاح، ٢٠١٤، قراراً بخوض معركة ضد قوات والحوثيين في تعز. دفع الإصلاح بكل ترسانته البشرية إلى الواجهة وخسر خسارات مرّة على مستوى الكادر الحزبي، ربما لا تضاهي خسارته سوى خسارة الحزب الاشتراكي في المعركة نفسها، إذا ما أخذنا على محمل الجد تصريحاً مبكراً لمحمد غالب أحمد، مطلع العام ٢٠١٦، عن "١٥٠" شهيداً من الكادر الاشتراكي في المعركة نفسها.

كتب كثيراً في تلك الأيام عن الحزب الذي يزج بتعز في أتون حرب أهلية ستدمر المدينة. النواة المنظمة للحزب شكلت مركزاً لأول جبهة مقاومة، وهذا أمر يمكن تخيله فراغياً. خلال وقت قصير، ومبكر، كانت المقاومة في تعز فعلاً شعبياً يقوم به كل الناس، واحتكر الإصلاحيون طرق التواصل مع السلطة اللاجئة في السعودية ومع التحالف العربي. في تلك المرحلة كان "أبو أنس"، السعودي الكريم، هو السماء التي تمطر البيض والدجاج على المقاومة عبر البوابة الإصلاحية. أصاب ثراء سريع قطيعاً من الإصلاحيين في تعز، إلى أن عثر السعوديون على أبو العباس الذي سيجد الطريق إلى الأماراتيين أقصر وأكثر رغداً. ثم صار أبو العباس هو من يملك كل المال بعد أن فقد "أبو أنس" السعودي هو الآخر عمله، وجاء سعودي آخر مؤمناً بسردية الصراع مع الإخوان. ذلك التبدّل في الأحوال دفع بكثير من الإصلاحيين، مقاومين وعسكريين، إلى مغادرة تعز قاصدين مأرب، حيث فردوس آخر وحاكم لا يظلم لديه "إصلاحي"، وهو أبعد ما يكون عن الإمارات. لمّا تقرر ضم التشكيلات المقاومة إلى الجيش الوطني، أو صناعة جيش قوامه المقاومة الشعبية، كانت النتيجة أن الإصلاحيين شكلوا العمود الفقري للجهازين الرسميين الجديدين، الأمني والعسكري.

توغلت الإمارات في المشهد التعزي، وعمل بعض رجال هادي، الميسري تحديداً، على صناعة جيش تعزّي على الأوراق تجاوز تعداده الأربعين ألف. اخترق الإصلاحيون تلك البالونة العسكرية، مطمئنين إلى وجود صديقهم الكبير، علي محسن، في رئاسة الجمهورية. بعد أن تمكن الحوثيون من إلحاق هزيمة قاتلة بتنظيم المؤتمر الشعبي العام انشق جزء منه وعثر على الطريق إلى الأماراتيين. صار للإمارات مفرزة عسكرية آخذة في التزايد، يمثلها العباسيون، ومفرزة سياسية يوجد في مقدمتها فراودة زمن صالح. حتى إنه أصبح ممكناً القول إن حمود الصوفي، صاحب التعبير الفخم "لو تشتي بوديك أبو ظبي"، هو السفير الإماراتي في محافظة تعز. في القاهرة احتفل صاحب "لو تشتي بوديك" بتنصيب "شمسان" محافظاً لتعز. كانت احتفالية مهيبة قام بها رجل غير ذي صفة، كما لو أنه كان يعد جهة ما بتحول دراماتيكي بخصوص المحافظة الرجراجة. بطريقة ما توصلت الإمارات إلى استنتاج يقول إنه من الصعب حسم موضوع عدن بمعزل عن موضوع تعز. أما الإصلاحيون الذي سبق أن ذاقوا طعم النصر فقد تشبثوا بأماكنهم وقبلوا المواجهة "على أرضهم وبين جمهورهم". يحتمي الإصلاحيون بالسعودية، ومن خلال تواجدهم في أراضيها فهم يواصلون عرض سرديتهم الخاصة، وبالطبع على إعادة تشكيل المقاربة السعودية للمسألة اليمنية. الصراع الإماراتي السعودي، وهو حتمي بالضرورة، يضع آلاته في تعز، ولا يمكن التنبؤ بمآلاته ما دامت المحافظة تعمل ليل نهار على إهدار عناصر ممانعتها ومقاومتها الذاتية.

لنتقبل هذه الحقيقة ولنجري حولها نقاشاً:
ساهم الإصلاحيون بجهود كبيرة في إخراج الحوثيين من مدينة تعز، وفي دحر فلول العباسيين. بالنتيجة: أفضى التعقيد الأول إلى تعقيد ثانٍ.

اللعبة في تعز ليست داخلية وحسب، وهو ما جعلنا أمام هذا المشهد:
في نقاشاتهم مع هادي يبدي قادة الإصلاح موافقة على إقالة القادة الإصلاحيين، في الجيش والأمن، في تعز شريطة أن يحل محلهم ضباط إصلاحيون! لا يملك هادي، المحاصر، ترف أن يصرخ في وجه الإصلاحيين: اغربوا عن وجهي. فهم يشكلون، بجسدهم الضخم، الأكذوبة الكبيرة التي يسميها هادي "الشرعية".

مرة أخرى:
انهيار الدولة العباسية في تعز هو أمر جيد لكل الناس. غير أن القول إن "حزب" الإصلاح هو من ألحق الهزيمة الختامية بالعباسيين هو أمر يثير المخاوف والقلق. وفي تقديري فإن ما تحتاجه تعز الآن وعلى نحو عاجل، وهي تسدل الستار على العباسيين، وهو التالي:
١. إقالة قائد الأمن وقائد المحور، باعتبار الرجلين جزءاً من مشكلة معقدة، والإتيان بقادة جدد محايدين من الناحية السياسية ويتبعون وزارة الدفاع، ووزير الدفاع، بشكل مباشر. 
٢. إحياء المجلس المحلي بالشكل الذي كان عليه في آخر انعقاد له في العام ٢٠١٤، عشية الخطاب الشهير الذي ألقاه المحافظ شوقي هائل.
٣. الدعوة لتشكيل "كتلة تاريخية" من الأحزاب والتشكيلات المدنية الأخرى، تعمل إلى جانب المجلس المحلي والجيش والمحافظ. 
٤. أن تعمل كل هذه القوة الحية على مواصلة التحرير، واستعادة الميناء، وربط المحافظة بما حولها من المدن ..
٥. انتشار القوات الأمنية بصورة مستدامة في كل المدينة لأجل استعادة ثقة الناس بالحياة والمدينة والسلطات.

م.غ.