من الحُديدة تعود الجمهورية!

(حُديدة) -بدون أل التعريف- يقال إنّها كانت امرأة تملك مقهىً صغيراً على إحدى ضفاف الشاطئ الغربي لليمن قبل 7 قرون، يرتاده رُكاب السفن العابرة.. اشتهر اسمها مع الوقت حتى أُطلق على المكان الذي كانت تقطنه، وتطور عبر السنين إلى قرية، ثم مدينة.. وحالياً مُحافظة تُعدُ الثانية بعد تعز من حيث عدد السُكان، وتضم ثاني أهم وأكبر ميناء في البحر الأحمر بعد ميناء جدة السعودي.

أدرك الحوثيون مُبكراً أنّ هذا الميناء الحيوي الهام سيكون بمثابة الشريان الذي سيكفل لهم البقاء.. ويضخ لهم أسباب الحياة، فسارعوا للاستحواذ عليه مُستفيدين من تجارب الماضي التي ربطت هزائم الإماميين المتتالية -أو تحجيمهم- بالسيطرة عليه.. وآخرها حرب الجمهوريين -بمساندة القوات المصرية- في الفترة (1962-1967) حيث تمكنت بعد أسابيع من دخولها الحُديدة، من حماية صنعاء وما حولها والاستيلاء على معظم المحافظات اليمنية، وحاصرت الإماميين في المدن والمناطق الجبلية.

لذلك، لا عجب أن حشد الحوثيون منذ أشهر كُل بنادقهم وبيادقهم ووساطاتهم لإبقائها رهن نفوذهم..

كما أعلنوا موافقتهم على تسليم الميناء لإشراف الأمم المُتحدة، ورضوخهم للحوار. وكل ذلك محض أكاذيب.. لأنّ الحوار طالما هو برعاية الأمم المتحدة ينبغي أن يكون مُلتزماً بقراراتها القاضية بانسحاب الحوثيين من المُدن.

وتارة أخرى هددوا بتلغيم البحر، ومنع مرور السفن إن اقتربت القوات الوطنية المشتركة من الميناء إرهاباً للدول الثماني المُطلة على البحر الأحمر.. وإرعاباً لدول الاتحاد الأوروبي التي تنحصر مع الأسف أهمية اليمن عندها في تأمين ملاحتها البحرية من صواريخ الحوثيين ولو بالرضوخ لهم، ولا تعنيها انتهاكاتهم لمواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، وفرض أجندتهم الرافضة للنهج الديمقراطي على أغلبية الُمخالفين لهم من اليمنيين بالقسر والإكراه.. فسارع وزراء خارجيتها للقاء المندوب الأممي (مارتن غريفيث) ناقلين له توجساتهم، ثُمَّ الضغط على الإمارات والسعودية لمنع توغل القوات المدعومة منها في المدينة.. مع أنّ إطلاق الحوثيين لمثل هذه التهديدات المثيرة للفزع يُفترض أنْ يُدينهم أمام الرأي العام الدولي كعصابة همجية يتحكم بها مجموعة من القراصنة.. وتكون سبباً لاحتشاد العالم لتأديبهم بعد إصرارهم على استخدام أسلحة طالبتهم الأمم المُتحدة بتسليمها.

لقد كان التآمر والخذلان والتأخر في حسم الحرب وتحوّل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ومنها تعز والحُديدة إلى مكاسب ومغانم يتفيؤها المتحوثون هو أكثر ما أضر باليمن... كما أوصل رسالة سلبية بأن لا مصلحة للمتحاربين في وقف الحرب أو التسوية.

والمماطلة والتسويف في تحرير الحديدة بعد نزوح آلاف الأسر منها بسبب ممارسة ضغوطات من دول يفترض أنّها شقيقة إنما يُسئ لدول التحالف المسنودة بقرارات الشرعية الدولية، وقد يخدم جماعة الحوثيين بمنحها حياة أطول عبر الحوار المنفلت من الضوابط الأممية.. لكنّ ذلك بالتأكيد لن يعيدها كما كانت؛ مهيمنة على الميناء والمدينة.. ولن يقبل بها الشعب اليمني في بقية المُدن، حتى وإنْ وقف معهم العالم أجمع.. ما لم تنته هذه الجماعة ويُغير قادتها من طريقتهم في التفكير والتعاطي مع طرائق الحكم، لأنّ مشروعهم غير وطني، ومستنسَخ من (حزب الله) المُمول إيرانياً، وليس لهم هدف سياسي غير القتال لفرض ما يتوهمونه من خُزعبلات عفنّت وعفى عليها الزمن.. والدولة التي يقاتلون لإنشائها لن تكون دولة كهنوتية مُتدثرة بالدِّين فحسب، ولكنها -أيضاً- دولة عُنصرية مُتسللة من عصور الغاب وحكم الفرد المُستبد المُدعي بحقه العرقي والإلهي في الحكم.

يعرف اليمنيون أكثر من غيرهم أنّ الحوثيين كانوا قبل الحرب لايتجاوزون بضعة آلاف، لكنهم تغلغلوا وانتشروا مثل النار في الهشيم بسبب تشجيعهم من أحزاب اللقاء المُشترك توهماً منها بأنهم سينخرطون في العملية السياسية والديمقراطية بعد إضعافهم لمراكز القوى من الرموز القبلية والعسكرية.. ولنفس السبب تلقوا حفاوةً واعتذاراً من الرئاسة التي كانت طريقتها في إدارة الدولة سبباً للحرب...آ 
ولا ننسى تعاطي الزعيم (صالح) معهم وصبره عليهم، ومحاولاته استيعابهم بالترغيب والترهيب، ظناً منه أنّه قادرٌ على ترويضهم واستعادتهم من قبضة المشروع الإيراني.. لكنه دفع حياته ثمناً لصبره وغدرهم.

والمُتأمل للحشد غير المسبوق الذي دعا إليه وشهدته صنعاء في 24 أغسطس من العام الماضي سيعرف كراهية صنعاء لهم ونفورها من مشروعهم السلالي، وجماعتهم الكهنوتية.. ولو كان أعلن الحرب عليهم يومها لانتهت دولتهم في سويعات.

الحديدة -مثلها مثل تعز- غير حاضنة للحوثيين، مع فارق أنّ الحديدة كانت ولا تزال موالية للمؤتمر الشعبي العام، و هذا يُفسر صمودها أكثر من عامين ونصف تعصباً منها لرئيس المؤتمر، فلما اُستشهد وهو يقاتل الحوثيين بسلاحه.. صارت جحيماً عليهم، فقُتِل فيها رئيسهم (الصمّاد)، كما تيسر وصول القوات الوطنية المُشتركة إليها بمجرد ظهور (العميد طارق محمد عبدالله صالح) المُقرّب منه والممدوح على لسانه في خطاب انتفاضته المتضمن وصاياه العشر الأخيرة، وإعلانه عن تشكيل وقيادة قوات (حُراس الجمهورية) للقتال جنباً إلى جنب مع ألوية العمالقة والمقاومة التهامية.

‏‎والْيَوْمَ، مع تباشير الحُديدة، يحدو اليمنيين الأمل بقائد مُلهم شجاع غير كسول ولا مُتباطئ.. يتبنى مشروعاً وطنياً جامعاً أساسه تحقيق العدالة والمساواة وحماية الحريات والتعدد الفكري والسياسي.. ويتصدر المشهد السياسي والعسكري ليحتمي في ظله وبظهره الضعفاء والمساكين لا العكس.

قائد يعمل ليلاً ونهاراً لتأمين حياة المواطنين ومعيشتهم… وقبل ذلك وبعده يحظى بدعم وتأييد دول التحالف.. والتفاف المكونات السياسية الفاعلة.

ها هي الحُديدة تتحرر تباعاً من هيمنة الحوثيين، بعد أن حسم التحالف موقفه.. وستتنفس قريباً نسيم الحرية.. إذا لم يلوِ التحالف عُنقه للتحذيرات المُخادعة والمُهوِّلة من تبعات استكمال تحريرها، فلن تكون كُلفة التحرير بكل مآسيها أسوأ من الجرائم والغُصص التي يتجرعها اليمنيون يومياً منذ أربع سنوات في ظل سيادة جماعة الكهنوت الخارجة من غياهب القرون المُظلمة... وما يحدث حالياً من تمترس همج الكهوف في أحيائها.. وقتالهم من داخلها، إنما يضرهم أكثر مما ينفعهم، ويؤكد توحشهم وعدم حرصهم على أرواح الأبرياء ليس إلاّ..

وفِي الأخير... سيهرب من يتبقى منهم كما هربوا من عدن..