هل تحولت الحرب ضد مقاومة المضادات الحيوية لصالحنا أخيرًا ؟

مضادات حيوية

غيّرت المضادات الحيوية ما يعنيه أن تكون إنسانًا. وقليل منا يتذكر قدرة العدوى البكتيرية الناتجة من جرح أو نوبة أنفلونزا أو من تزاوج أو ولادة على قتل أي شخص في أي وقت. وكان خطر الموت الملازم لنا مجرد أمر تعايشنا معه. عندما صارت المضادات الحيوية شائعة في خمسينات القرن العشرين، انتهى كل ذلك – كما فتحت الأدوية آفاقًا جديدة للجراحة ولعلاج أمراض أخرى.

لكن الأيام الماضية السيئة آخذة في العودة مع تطور البكتيريا التي تقاوم المضادات الحيوية. وفي الأسبوع الماضي فقط، انتشرت أنباء عن امرأتين في المملكة المتحدة مصابتين بمرض السيلان Gonorrhoea المقاوم أو “الخارق” Super. ومن حسن التوفيق، فإنهما شُفِيتا لكن ربما لا يُشفى منه آخرون.

اقراء ايضاً :

ربما سمعت عن هذه المشكلة، إذ كانت مجلة نيوساينتيست New Scientist تكتب عنها منذ عقود. وبعد إطلاق التحذيرات العاجلة في عام 2015، خصصت الحكومات والجمعيات الخيرية في نهاية المطاف المزيد من الأموال لاكتشاف دواء ناجع لذلك. وبدأت تلك الجهود تؤتي ثمارها، لكن لاتزال هناك مشكلة أكبر تتعلق بالجانب الاقتصادي وليس العلمي.

تكمن المشكلة في وجوب استعادة شركات الأدوية الاستثمارات التي تضخها لتطوير الأدوية، لكن المضادات الحيوية هي نقيض ما هو أكثر رواجًا. لأنها تُتناول لعدة أيام أو أسابيع، في حين أنّ أدوية مرض السكري أو القلب تكون مربحة جدًّا لأن المرضى يستخدمونها مدى الحياة. إضافة إلى ذلك، لا تستطيع المضادات الحيوية الجديدة منافسة الأدوية القديمة الزهيدة الثمن التي لا تزال فاعلة ولم تعد محمية ببراءة اختراع.

” في جميع أنحاء العالم، هناك 56 نوعا من المضادات الحيوية فقط نجحت في الوصول إلى مرحلة الاختبار على البشر”

ومع حلول الوقت الذي تطور فيه الجراثيم مقاومة ضد المضادات الحيوية القديمة، سيتعين على الأطباء أن يصفوا أدوية جديدة باهظة الثمن، تكون فترة حمايتها ببراءة الاختراع على وشك الانتهاء، مما يترك القليل من الوقت أمام الشركات المنتجة لها لجني الأرباح. ويجب أيضًا ألا تبقى الأدوية الجديدة كاحتياطي وألا نستخدمها إلا باعتدال، لمنع البكتيريا أيضا من تكوين مقاومة ضدها.

ونتيجة لذلك، كما يقول كيفن أوتيرسون Kevin Outterson من جامعة بوسطن Boston University، فإنّ مبيعات الولايات المتحدة من المضادات الحيوية التي لا تزال تخضع لبراءات اختراع بلغت في 700 مليون دولار في عام 2017 – وهو أقل مما يجنيه دواء واحد جديد للسرطان خلال عام. ولهذا الأمر تأثير سلبي في مجال إنتاج المضادات الحيوية.

ويقول أوتيرسون مدير الاتحاد كارب-إكس CARB-X، وهو اتحاد عالمي يشجع تطوير المضادات الحيوية، إنّ علماء الميكروبيولوجيا ليسوا مهتمين بمكافحة البكتيريا. “فالنجاحات المِهنية والمالية تكمن في علاجات أمور مثل الإيبولا Ebola.”

وقد بدأت الشركات بالتخلي عن العمل على المضادات منذ سنوات. وفي عام 2018، تخلت شركتان أخريان، هما سانوفي Sanofi و نوفارتيس Novartis، عن فرق الأبحاث الخاصة بالمضادات الحيوية، مما ترك الشركة غلاكسو سميث كلاين GlaxoSmithKline والشركة بفيتزرPfizer والشركة ميرك Merck الوحيدة في هذا المجال؛ وهي بدورها خفّضت برامجها بهذا الصدد وتوقفت عن البدء بأبحاث جديدة. وحاليا، تأتي معظم الأدوية المكتشفة من شركات تقنيات بيولوجية صغيرة تحاول شق طريقها. وتشير توقعات الأرباح إلى تكبّد العاملين في مجال المضادات الحيوية خسائر تتراوح ما بين 50 وإلى 75 % من قيمة أسهمها في عام 2018، حتى مع نمو استثماراتها في شركات أخرى.

بين الدفع والجذب

يسبب الإخفاق في سوق المضادات الحيوية أزمة أخرى. ومع حلول بداية عام 2018 قلص إغلاق برامج البحث والتطويرR&D الخاصة بمجال المضادات الحيوية عدد الباحثين الخبراء العاملين فيه ليبلغ نحو 800 باحث فقط. “في عام 2018 فقط، فقدنا 200 منهم. وهذا يشبه اندثار اللغة،” كما يقول أوتيرسون. وهو يخشى من تخلي الشركة الكبرى المتبقية في غضون خمس أو عشر سنوات عن إنتاج المضادات الحيوية، مما قد يكون سببًا في عزوف هؤلاء الباحثين الحيويين عن هذا المجال.

وبالفعل، فإنّ خط إمداد الأدوية الجديدة قد توقف. وفي الشهر الماضي، كشف تحليل أجرته شركة غلاكسو سميث كلاين أنّ 56 نوعا فقط من المضادات الحيوية التجريبية في جميع أنحاء العالم اجتازت مرحلة التجربة على الحيوانات، لتصبح في مرحلة التجربة على البشر – وفي الغالب لن يتمكن ثلاثة أرباعها في المتوسط من اجتياز التجربة. ومن بين الـ 56 نوعا فإن 30 % منها هي ذات فاعلية جديدة. وهذا أمر مثير للقلق؛ لأنّ الأدوية التي تعمل بنفس طريقة الأدوية الحالية ربما لا تكون قادرة على التغلب على المقاومة (انظر: طرق جديدة لقتل العدوى).

وفي عام 2015، قدّرت لجنة أنشأتها حكومة المملكة المتحدة ويرأسها جيم أونيل Jim O’Neill، وهو مصرفي سابق، أنّ تكلف خسارة المضادات الحيوية المجتمع تريليونات الدولارات. ودعت اللجنة الحكومات إلى استثمار بلايين الدولارات بدلاً من ذلك في نوعين من الحوافز لتطوير المضادات الحيوية الجديدة: حوافز “دافعة” تمول الأبحاث لاكتشاف أنواع جديدة من الأدوية وحوافز “جاذبة” لتطويرها وجعلها مدرة للأرباح.

وجزء الدفع يحدث أخيرًا. وفي العام الماضي، ذكر أونيل أنه إذا استمر الوضع على هذه الحال، فعلى التمويل الجديد أن يُضيف ما يصل إلى بليوني دولار على مدار خمس سنوات مثلما دعت إليه اللجنة – وهذه الأموال ستُستخدم لتمويل اكتشافات الأدوية الجديدة.

وعلى النقيض من الـ 56 نوعا التي كانت في مرحلة التجارب على البشر، هناك 98 دواء ستبدأ اختبارتها على الحيوانات قريبا، وسيهاجم نحو ثلثيها البكتيريا بشكل مختلف عن الأدوية القديمة، مما يزيد من فُرص نجاحها. ويقول أوتيرسون: “من دون حوافز الجذب، فإنّ هذا البحث سيتوقف فجأة.”

ويُقدر أونيل أنّ التمويل الحكومي الذي يتراوح بين 1.6 و3.7 بليون دولار سنوياً يمكن أن يدفع لإحدى الشركات لإجراء اختبارات مكلفة لمضادات حيوية جديدة على البشر. ويمكن للحكومة بعد ذلك امتلاك براءة الاختراع أو جزء من الحقوق لتسويق الدواء الجديد. وبذلك تسترد الشركة استثماراتها، ويُستخدم الدواء فقط حسب الحاجة.

وفي شهر مايو 2019، ستطلق المملكة المتحدة مشروع “الجذب” الأول من نوعه على الإطلاق؛ إذ ستدفع لشركتين لتزودا السوق بأدوية جديدة مضادة للميكروبات. وسيُـ”فصل” Delinked” سعر الدواء عن المبلغ الذي تحتاج إليه الشركة لاسترداد استثماراتها، لذلك ليس هناك ضغط لتسويق الأدوية الجديدة تسويقا شديدا، في حين يمكن توفير الأدوية في الحالات التي تُقاوم كل العلاجات الأخرى. ويخطط الكونغرس الأمريكي المنتخب حديثاً لمناقشة خطط “مكافأة دخول السوق” للمضادات الحيوية الجديدة، بما في ذلك فكرة تدعى “شارك أو ادفع”، يتعين فيها على شركات الأدوية التي لا تنتج مضادات حيوية دفع مبلغ لصندوق مكافأة الشركات التي تنتجها. كما أن التشريعات القائمة فعليا تسمح للوكالات الحكومية بمكافأة الشركات التي تطور أدوية دفاعية بيولوجية ليس لها سوق كبيرة، مثل لقاحات الأنثراكس Anthrax Vaccines، يُمكن أن تفعل في هذه الحالة أيضا.

إذا بدا ذلك وكأنه سيكلف دافعي الضرائب مبالغ طائلة، مقارنة بتكلفة معالجة الأمراض المقاومة – 2.2 بليون دولار سنوياً في الولايات المتحدة، وفقاً لدراسة أُجريت في مارس 2018. وفي سوق المضادات الحيوية الحاصلة على براءات اختراع التي تقدر قيمتها بنحو 700 مليون دولار في الولايات المتحدة، فإن وجود 700 مليون دولار إضافية ستدفع الأمور للسير باتجاه فعال، كما يقول أوتيرسون.

“يوجد 98 دواء سيبدأ اختبارها على الحيوانات قريبا، ومعظمها يهاجم البكتيريا بطُرقً جديدة”

 

وربما لا نحتاج حتى إلى الدفع مباشرة. إذ إنه في نوفمبر 2018، اجتاز عقار يدعى زوليفلوداسين Zoliflodacin اختبارات أظهرت أنه آمن وفعال في البشر ضد مرض السيلان، الذي أصبح مقاومًا للمضادات الحيوية إلى درجة صارت معها بعض حالات العدوى غير قابلة للشفاء تقريبًا.

العديد من الأدوية الجديدة الواعدة تصل إلى هذا الحد، وليس أبعد من ذلك، لكن هذا العقار جاهز بالفعل لدخول مرحلة التجارب الكبيرة والمكلفة اللازمة قبل أن يتأهل للحصول على ترخيص التداول. وستمول تجاربَ الدواء كل من الشركة إنتاسيس Entasis، الشركة الأمريكية التي تطور الدواء، والحكومات والجهات المانحة الأخرى التي نظمتها مبادرة الشراكة العالمية للبحث والتطوير في مجال المضادات الحيوية (اختصارا: المنظمة GARDP)، وهي منظمة عالمية تشجع تطوير المضادات الحيوية.

وإذا اجتاز الدواء الاختبارات، فإن الشركة Entasis ستسوقه في 34 دولة ثرية، في حين تحصل المنظمة GARDP على حقوق التسويق في 166 دولة فقيرة. وبذلك تُحقق الشركة Entasis الربح الذي تحتاج إليه، في حين يواجه وباء السيلان في البلدان الفقيرة دواءً فعالًا – تحت سيطرة محكمة.

في النهاية، يقول أوتيرسون، إذا كانت هذه المخططات لا تؤدي دورها بالسرعة الكافية، فسيتعين على الحكومات أن تتولى مهمة توفير المضادات الحيوية. ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي تتولى فيها الحكومات ذلك، فحتى ثمانينات القرن العشرين، أنتجت الوكالات الحكومية لقاحات الصحة العامة التي هزمت أمراضا عدة مثل شلل الأطفال Polio والحصبة Measles والجدري Smallpox، تحقيقا للمصلحة العامة، كما هي الحال في شق الطرق وبناء المدارس.

والأيدولوجيات تمتعض من الحكومات التي تتعامل مع الأسواق. لكن ربما لا يتطلب الأمر سوى بضع حالات من السيلان أو التهابات المسالك البولية المستعصية حتى يغير الأيديولوجيون موقفهم.

طُرق جديدة للقضاء على العدوى New ways to kill infections

نحن بحاجة إلى ترسانة جديدة للتغلب على مقاومة المضادات الحيوية. فيما يلي بعض الطرق الممكنة لتعزيز دفاعاتنا.

 سلاسل في التربة

تطورت المضادات الحيوية في الأصل من الميكروبات التي تحاول صد البكتيريا، ولم نكتشف سوى عدد قليل من تلك الموجودة في الطبيعة.وفي يونيو 2018، فحص فريق في كاليفورنيا جينومات 1000 ميكروب من التربة، وكان 360 منها جديدا على العلم، ووجد شيفرة جينية لعدد كبير من المواد التي تشبه المضادات الحيوية.

أفضل معًا

تناول دواءين معاً، من الناحية النظرية، يجعل من الصعب على البكتيريا مقاومة كليهما. في يوليو، اختبرت مجموعة في ألمانيا نحو 3000 تركيب من المضادات الحيوية والمواد الكيميائية الأخرى، فوجدت أ أنه، في معظم الحالات، عاقت الأدوية بعضها بعضا. لكن بعضها عملت معاً بشكل أفضل، بما في ذلك مضاد حيوي واحد مع الفانيليا.

تحريض ميكروب على آخر

تحقق العديد من الشركات في الكيفية التي قد تزيح فيها البكتيريا المتنافسة والميكروبات الأخرى العدوى. تُطوّر الشركة سايباك SciBac في بورلنغام بكاليفورنيا، ميكروبات تمنع البكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل Clostridium Difficile، التي تسبب الإسهال، من الانتشار في الأمعاء.

وتبحث الشركة فيدانتا بيوساينس Vedanta Biosciences في كيمبريدج بماساتشوستس، عن بكتيريا أمعاء “نافعة” توقف البكتيريا Clostridium Difficile بمنافستها والتغلب على أعدادها بابتلاعها.

استعر مناعتك

تتطلب أجسادنا أسابيع عدة حتى تكوّن أجسامًا مضادة لإيقاف العدوى. وتعمل الشركات على إنتاج أجسام مضادة اصطناعية، بما في ذلك نوع مشتق من حيوان اللاما والحيوانات المماثلة. وهذه الأجسام المضادة صغيرة بنحو غير عادي وتُصيب أهدافًا في البكتيريا يصعب الوصول إليها.

مكمن ضعف البكتيريا

تهاجم المضادات الحيوية الموجودة عددًا قليلًا من المواقع غير الحصينة على سطح البكتيريا، لكن بمجرد أن تكتسب البكتيريا جينًا لحماية هذا الموقع – عن طريق تدمير المضاد الحيوي، أو إيقاف ارتباطه – يتوقف الدواء عن العمل.

ولهذا تبحث عدة شركات عن أدوية تهاجم أهدافًا جديدة، مثل أجزاء البكتيريا التي تصنع الريبوسومات وتستقلب الدهون.